انطلقت ثورة كبرى في مجالَي علم الوراثة وعلم الجينوم مع اكتمال «مشروع الجينوم البشري»، وهو مشروع بحثي دولي، يُعَدُّ من أعظم الإنجازات العلمية في تاريخ الإنسانية، إذ مهّد المشروع، الذي دُشِّن في عام 1990، واكتمل في عام 2003، الطريقَ لاكتشافات علمية لا حصر لها، تتعلق بالجينات والأمراض البشرية. 

وتعرَّف المشروع إلى عددٍ يتراوح بين 20 و25 ألف جين، تبين ارتباط نحو 8 آلاف منها بأمراضٍ يندرج كثيرٌ منها ضمن الأمراض النادرة. وتتجلَّى أهمية هذه الاكتشافات خصوصاً في التعرُّف إلى الأمراض النادرة، التي كان يتطلب تشخيصها من قبلُ سنواتٍ، لتنتهي معاناة المرضى وأُسَرهم الناجمة عن إجراءات التشخيص المطولة.

ويسّرت الاكتشافات الجينية كذلك معرفة هل كان خطر الإصابة بأمراضٍ معينة يزداد لدى أشخاصٍ بعينهم، أو كانوا يحملون جينات تجعلهم عرضة للإصابة بحالات مرضية معينة، مثل بعض أنواع السرطان، والأمراض الجينية المعقّدة، كداء السكري. وإذا توافر الدعم الطبي اللائق لهؤلاء الأشخاص، فقد يتسنّى لهم ولأفراد أسرهم الخضوع لفحوصات من أجل اكتشاف الأمراض ومنع تطورها، والاستفادة من خيارات العلاج الباكر، والوقاية من المضاعفات. وقد أدت هذه الاكتشافات أيضاً إلى زيادة فهم تأثير الجينات في استقلاب الأدوية (أو ما يُعرَف بالتفكيك الاستقلابي للأدوية)، إضافة إلى القدرة على ابتكار علاجات أكثر دقةً، تراعي احتياجات الأشخاص المرضية، مع الحد الأدنى من الآثار الجانبية، وذلك في مجال علم الصيدلة الجيني، الذي يتسع نطاقه يوماً بعد يوم. ومن أمثلة الطب الدقيق في الآونة الأخيرة أن تعديل الجينات باستخدام تكنولوجيا المقص الجيني قد أصبح أداةً فاعلة جدًّا، وتُستخدم في التجارب السريرية، أملًا في التوصل إلى علاجات للعديد من الأمراض الجينية. 

وما زال هناك عدد كبير من الأمراض النادرة التي لم تُكتشف أسبابها الجينية بعدُ، ما يؤكد أهمية الاستمرار في إجراء البحوث التي قد تمكنِّنا من اكتشاف جينات جديدة تسهم في علاج ما يُعرف بالاضطرابات «المندلية» (اختلالات أحادية الجين). 

وعلى المستوى المحلِّي أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة برنامج الجينوم الإماراتي، لدراسة واستكشاف التنوع الجيني لدى سكان الدولة، واستخدام البيانات الجينومية في التشخيص المتطور، وتحديد خيارات العلاج، وتوفير أدوية تراعي احتياجات المرضى من أجل تحسين الصحة العامة للسكان.

وعلى الرغم من مرور عقدين على إنجاز مشروع الجينوم البشري، فإنه ما زال يُوجِّه قطاع الرعاية الصحية ويغيِّره. وتمكنِّنا اكتشافات هذا المشروع من التنبؤ بالأمراض وتشخيصها، ومعالجتها بدقة تراعي احتياجات المرضى أفضل من ذي قبل، ما أدّى إلى تحوُّل جذري إلى الطب الدقيق، الأمر الذي يفتح مزيداً من الآفاق أمام اكتشافات جينية جديدة في السنوات المقبلة.

الدكتورة/ نورة الظاهري
أستاذ مساعِد في قسم الوراثة والجينوم بجامعة الإمارات. ومستشارةً في علم الوراثة السريرية وعلم الوراثة البيوكيميائية  في مستشفى توام بالعين.